كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ قَبِلْتُهُمْ إِذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا فَرْقَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يُفَرَّقَ الشُّهُودُ فِي أَدَائِهَا أَوْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَلَا تُقْبَلُ إِنِ افْتَرَقُوا فِي الْأَدَاءِ الشهود علي الزنا، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَلَا يَجِبُ بِشَهَادَتِهِمْ حَدٌّ: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ بِلَفْظِ الْقَذْفِ. فَإِنْ تَكَامَلَ فِيهَا الْعَدَدُ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إِلَى الشَّهَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلِ الْعَدَدُ، اسْتَقَرَّ فِيهَا حُكْمُ الْقَذْفِ وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْلِسُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا: لِأَنَّ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ فِي الْعُقُودِ، وَكَالْقَبْضِ فِي عَقْدِ التَّصَرُّفِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُعْتَبِرَةٌ بِكَمَالِ الْأَدَاءِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ، فَلَمَّا كَانَ تَفْرِيقُ الْأَدَاءِ فِي مَجْلِسٍ ذُكِرَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ زِنًا، وَوَصِفَ فِي الْآخَرِ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُ الْعَدَدِ فِي مَجْلِسَيْنِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالشَّهَادَةِ أُخْرَى، ثُمَّ تَغَلَّظَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَجْهَيْنِ: تَصْرِيحٌ بِصِفَةٍ، وَعَدَدٌ فِي تَكْرَارِهِ، وَجَبَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: زِيَادَةُ عَدَدٍ، وَاجْتِمَاعٌ فِي مَجْلِسٍ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ} [النُّورِ: 4] وَلَمْ يُفَرِّقْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجْلِسٍ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجْلِسَيْنِ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجَالِسَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ. وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ غَيْرِ الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي غَيْرِ الزِّنَا كَالْمُوَالَاةِ: وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ: لِلَّهِ، وَلِلْآدَمِيِّينَ وَلَيْسَتْ يُعْتَبَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ إِذَا تَقَدَّمَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَاهِدًا، أَوْ قَاذِفًا. فَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لَمْ يَصِرْ قَاذِفًا بِتَأَخُّرِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا لَمْ يَصِرْ شَاهِدًا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَفَرُّقِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسَيْنِ علي الزنا أَكْثَرُ مِنْ تَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَامَ الْمَجْلِسُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي آخِرِهِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إِلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ، وَهُوَ إِذَا قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَإِلَى إِمْضَائِهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ. وَهُوَ إِذَا اسْتَدَامَ مَجْلِسُهُ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي صَبَاحِهِ وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَسَائِهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ مُطَّرَحًا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَمْنَعُ مِنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُتَابَعَةِ: لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ بِالشُّهُودِ تَقْتَضِي تَفْرِيقًا لِيَخْتَبِرَ بِالتَّفْرِيقِ رُتْبَتَهُمْ، فَكَانَ افْتِرَاقُهُمْ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْعَدَدَ: فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاذِفًا لَمَا جَازَ أَنْ يُكْمِلَ بِهِ الْعَدَدَ: لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ فَلَيْسَ يَصِحُّ: لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهَا يَكُونُ بِالتَّرَاخِي، وَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا، وَالْقَبْضُ بِالصَّرْفِ هُوَ الْمُعْتَبِرُ بِالْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ قَوْلًا فَيَعْتَبِرُ بِهِ الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَفَرُّقِ الْأَدَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتِمَّ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ. وَالْعَدَدُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَمَّ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَغْلِيظِ الْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ: لِأَنَّهُ لَا يَتَغَلَّظُ عِنْدَنَا بِالتَّكْرَارِ وَإِنْ تَغَلَّظَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَا يَسْتَوِيَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي مَجَالِسَ فَإِنْ تَكَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ لَمْ يَتِمَّ، وَيَعْتَبِرُونَ أَعْدَادَ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ لَمْ يَتِمَّ. فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَعْنَى الْجَمْعِ فَبَطُلَ.
فصل: وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا وَحَدِيثِهِ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَهَدْتُ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَقْتًا فَأَبَى. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقَّتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ شَهِدَ قَبْلَهَا قُبِلَ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَهَا لَمْ يُقْبَلْ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضَغْنٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. وَلِأَنَّ شُهُودَ الزِّنَا مُخَيَّرُونَ بَيْنَ إِقَامَتِهَا وَتَرْكِهَا، فَإِنْ أَخَّرَهَا صَارَ تَارِكًا لَهَا، وَالْعَائِدُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ تَرْكِهَا مُتَّهَمٌ، وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلٍ وَعَدَدٍ كَالْعُقُودِ، فَلَمَّا بَطُلَتِ الْعُقُودُ بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَثَابَتِهَا فِي إِبْطَالِهَا بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّورِ: 4]، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ فِي الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ قُبِلَتْ عَلَى الْفَوْرِ قُبِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ: وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا ثَبَتَ بِهِ الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالتَّرَاخِي كَالْإِقْرَارِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مُرْسَلٌ: لِأَنَّ عَمَّرَ لَمْ يَلْقَهُ وَخَالَفَهُ، وَقَدْ خَالَفَ عُمَرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ نَقَلَ الشُّهُودَ فِيهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَمِعَهَا بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَشْهَدُوا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْفِعْلَ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ شَهَادَتُهُمْ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالتُّهْمَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْمُبَادَرَةِ أَقْوَى مِنْهَا فِي التَّأْخِيرِ. رَوَى عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا تَثَبَّتَّ أَصَبْتَ أَوْ كِدْتَ تُصِيبُ، وَإِذَا اسْتَعْجَلْتَ أَخْطَأْتَ أَوْ كِدْتَ تُخْطِئُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التُّهْمَةَ بِالْعَدَاوَةِ لَا تُوجِبُ عِنْدَهُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ رُدَّتْ عِنْدَنَا، وَلَوْ صَارَ مَتْهُومًا بِالتَّأْخِيرِ لَرُدَّتْ بِهِ فِي غَيْرِ الزِّنَا. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِالْعُقُودِ، فَبَاطِلٌ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعُيُّ: وَمَنْ رَجَعَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ حد الزنا لَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ. وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً، فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ، وَالْأُولَى فِيهِمَا تَقْدِيمٌ لِلثَّانِيَةِ: لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلْأُولَى. وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً، أَوِ اثْنَيْنِ، أَوْ وَاحِدًا، الْحُكْمُ فِيهِمْ سَوَاءٌ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ الرَّابِعُ فَتَوَقَّفَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، فَهَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ إِذَا لَمْ يَكْمُلُ عَدَدُهُمْ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:- وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ مِنْ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ عَلَّقَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَصِيرُوا قَذَفَةً بِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ. فَدَلِيلُهُ: قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ، وَكَانَ مِنْكَاحًا، فَخَلَا بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ كَانَ يَنْزِلُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِيهَا أَبُو بَكَرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنُفَيْعٌ، وَزِيَادُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَتَحَتِ الْبَابَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَرَأَوْهُ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَفْعَلُ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَقَدَّمَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكَرَةَ: تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا. وَانْتَشَرَتِ الْقِصَّةُ، فَبَلَغَتْ عُمَرَ، فَكَتَبُوا وَكَتَبَ أَنْ يُرْفَعُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ حَضَرُوا مَجْلِسَهُ، بَدَأَ أَبُو بَكَرَةَ فَشَهِدَ بِالزِّنَا وَوَصَفَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ رُبُعُكَ. ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ نَافِعٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ نِصْفُكَ. ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ. وَقَالَ عُمَرُ: أَوَدُّ الْأَرْبَعَةَ. وَأَقْبَلَ زِيَادٌ لِيَشْهَدَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
إِيهًا يَا سَرْحَ الْعُقَابِ، قُلْ مَا عِنْدَكَ أَوْ أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَنَبَّهَ زِيَادٌ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً، وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً، وَرَأَيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا، وَأَنَّ رِجْلَيْهَا عَلَى كَتِفَيْهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَا أَخِي قُمْ فَاجْلِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ، فَجُلِدُوا جَلْدَ الْقَذْفِ، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكَرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا. فَهَمَّ عُمَرُ بِجَلْدِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جَلَدْتَهُ، رَجَمْتُ صَاحِبَكُمَا. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ تَأْوِيلَان:
أحدهما: إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَقَدْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ جُلِدَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَصَارَتْ إِجْمَاعًا. فَاعْتَرَضَ طَاعِنٌ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنْ قَالَ: لَمَّا عَرَّضَ عُمَرُ لِزِيَادٍ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ شَهَادَتَهُ، وَفِيهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَاعَةٌ لِحُدُودِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْرِيضِ بِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحُدُودَ، فَإِنَّهُ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ لَامَسْتَ لِيَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ فِي تَعْرِيضِهِ لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ الشَّهَادَةَ: لِأَنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَالَ: لِمَ عَرَّضَ عُمَرُ بِمَا أَسْقَطَ بِهِ الْحَدَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَأَوْجَبَ بِهِ الْحَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ؟ فَقِيلَ: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ قَتْلٍ وَجَلْدٍ، كَانَ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ بِالْجَلْدِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الْجَلْدِ بِالْقَتْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشُّهُودُ مَا نُدِبُوا إِلَيْهِ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَاتِ، وَخَالَفُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ» كَانُوا بِالتَّغْلِيظِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالثَّالِثِ: أَنَّ رَجْمَ الْمُغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، وَجَلْدُهُمْ قَدْ وَجَبَ مَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، فَكَانَ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ مَا وَجَبَ. الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ جَرْحِ بَعْضِهِمْ وَفِسْقِهِ: لِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَقُوا فِي الشَّهَادَةِ فَالْمُغِيرَةُ زَانٍ، وَالزِّنَا فِسْقٌ، وَإِنْ كَذَبُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ. قِيلَ: هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْ قَدْحٍ يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَمَّا الْمُغِيرَةُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَكَحَهَا سِرًّا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ لِعُمَرَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى نِكَاحَ السِّرِّ وَيَحُدُّ فِيهِ، وَكَانَ يَتَبَسَّمُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَأَنْ أَعْجَبَ مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بَعْدَ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ.
فَقِيلَ: وَمَا تَفْعَلُ؟ قَالَ: أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا زَوْجَتِي. وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِظَاهِرِ مَا شَاهَدُوا، فَسَلِمَ جَمَاعَتُهُمْ مِنْ جَرْحٍ وَتَفْسِيقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَثْبَتُوا أَحَادِيثَهُمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ أَبُو بَكَرَةَ إِذَا أُتِيَ بِكِتَابٍ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّقُونِي. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى شَيْئَان:
أحدهما: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَذْفِ: زَنَيْتُ. وَلَا يَصِفُ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَنَيْتُ وَيَصِفُ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْمَقْذُوفِ، وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ حَدَّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْقَذْفِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَسَرُّعِ النَّاسِ إِلَى الْقَذْفِ إِذَا أَرَادُوهُ أَنْ يُخْرِجُوهُ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُحَدُّوا، وَفِي حَدِّهِمْ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ عَنْ تَوَقِّي الْقَذْفِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَا يُحَدُّونَ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّورِ: 14] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَذَفَةِ وَالشُّهُودِ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمْ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَرَّةٌ، وَالشَّهَادَةُ إِقَامَةُ حَقٍّ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَكْثَرَ الْقَذْفَةُ حُدُّوا، وَلَوْ كَثُرَ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدُّوا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ إِذَا قَلُّوا، كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ إِذَا كَثُرُوا، وَلِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّهُودِ- إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا- مُفْضٍ إِلَى كَتْمِ الشَّهَادَةِ: خَوْفًا أَنْ يُحُدُّوا إِنْ لَمْ يُكْمِلُوا، فَتُكْتَمُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُؤَدَّى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [الْبَقَرَةِ: 283]، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ، وَكَمُلَتْ فِي الْعَدَالَةِ أَوْصَافُهُمْ.
فصل: فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ عَدَدُهُمْ وَنَقَصَتْ أَوْصَافُهُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ فَكَانُوا عَبِيدًا، أَوْ فُسَّاقًا، أَوْ أَعْدَاءً، لَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُمْ، وَلَمْ يُجْلَدْ بِهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدٍ أَوْ نُقْصَانِ صِفَةٍ، هَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ بِهِ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ تُوجِبِ الْحُكْمَ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلَفَانِ فَلَا يَصِيرُوا بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ قَذَفَةً، وَلَا يُحَدُّونَ، وَإِنْ صَارُوا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ قَذَفَةً وَحُدُّوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ نَصٌّ، وَنُقْصَانُ الصِّفَةِ اجْتِهَادٌ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّدُّ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ أَمْرًا ظَاهِرًا كَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، جَرَى مَجْرَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ، هَلْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصِّفَةِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ كَالْفِسْقِ الْخَفِيِّ وَالْعَدَاوَةِ الْخَفِيَّةِ، كَانَ مُخَالِفًا لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلَمْ يَصِيرُوا بِهِ قَذَفَةً، وَلَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا: لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ كَالنَّصِّ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ قَبْلَ سَمَاعِهَا، وَالْخَفِيُّ مِنْهُ اجْتِهَادٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَافْتَرَقَا.